الأحد، 22 ديسمبر 2013

العراق وتعددية الغزو والاحتلال II / طارق الدليمي

ج 1 هنا



يجمع اللغويون ومنهم المثقف الكبير لويس عوض، في فقه اللغة، على أن المرادفات في اللغة، والسياسية تحديدا، هي السائدة في المعرفة المباشرة وتحريرها المطلوب في التطبيق التاريخي العملي؛ ففي الحديث الذي أطلقه الوزير الأول حول «تشخيص الخلل قبل وقوعه» وذلك بمعرض أقواله حول الأمطار والسيول وتقولاته حول استغلالها انتخابيا، فإنه في هذه الطلاقة الفكرية يدفع الإعلام قسراً إلى تنشيط مواهبه والتعليق بقسوة حول العلاقة الجدلية بين «اللفتة» و«الفلتة» في البناء والابداع السياسي الحزبي للاحتلال ونخبه. إنه تمجيد الذات النرجسية العتيق وملاقحته مع تحنيط الوعي العقلي النقدي لتعود الحالة القائمة إلى الزمن البيولوجي الســابق وكمـا يقول جاك لاكان، فإن هذا الوعي هو بالضبط «المعرفة في الحقيقة»، أي المعرفة الغرائزية الأولى، وهي المعرفة التي لا تعرف نفسها أيضاً، وقد استفاد منها، بالمقلوب، فيلسوف الاحتلال دونالد رامسفيلد، والذي يبدو انه كان «لا يعرف» أنه «لا يعرف» ما الذي يمكن أن يحدث في العراق المحتل. إن «تشخيص الخلل قبل وقوعه» هو موضوعة احتلالية بامتياز تحدث عنها معظم قادة النخب الاحتلالية الاميركية، التي كتبت هذه السجالات في «اللوح المحفوظ» للامبراطورية وسجلها المكتظ بثنائية الفشل والموت.
هنا ومن دون مبالغة، يحق لنا أن نراجع سلوكيات النخب الحاكمة الآن، بما كان يتمناه الاحتلال قبل الاحتلال! وما كانت تفكر وترطن به المؤسسة الاميركية في تحديد سمات العراق القادم قبل «استعارته» من الحكم الديكتاتوري السابق. وهذا ما لم تستطع الادارة تنفيذه بالبراعة الكولونيالية المعهودة والمطلوبة في زمن تدهور الهيمنة وانهيار القطبية المنفردة على المستوى العالمي. إن التشخيص الذي اعتمدته مدرسة جاك لاكان جريء ونفاذ في كشف المعرفة الاحتلالية الكولونيالية بالمقارنة مع تحرير المعرفة التاريخي للرأسمالية المستنيرة في انجازاتها التقدمية الانسانية. وإذا كان كولن باول قد استعمل مثلا تجاريا جلفا بخصوص احتلال العراق: «إذا كسرت آنية الفخار فعليك امتلاكها» لا تصليحها هذا هو قانون «المول» الامــيركي اليومي فإن نهج لاكان، والمبدع سلافوي جيجيك، يلتصق بالحادثة التي أوردها فرويـد، حــول استــعارة شخص ما ابريق شاي من شخص آخر، بمعرض التأكيد على كشف المعرفة في حالة الانكار الفصامي الكامل للواقع المحيط وبما يدور فيه. إن أهمية إعادة هذا المثال المكرر لا ترتكز على نمطيته الفعالة فقط، وإنما إلى كونه يحتوي في جوهره على التناقض الودي بين نخب الاحتلال الاميركي وبين نخب المتعاونين معه من العراقيين الأوباش. وهو هنا لا يصــح في العــراق فقــط، وإنمــا في كل منــاطق الوطــن العربي الذي تجتاحه زوابع «الوهابية» الخليجية تحت المظلة «السوداء» للحضارة الغربية المعاصرة.
إن استعارة إبريق الشاي في حالة جيجيك،الآن بالذات، تبدو وكأنها مرتبطة بالتراتبية المادية مع التعددية في المرحلة الانتقالية وتأثيراتها على حياة الناس ومستقبل الوطن. إن استعارة الابريق ومحاولة إرجاعه إلى صاحبه في الوقت الملائم تفرض أسئلة عدة، لا سيما إذا ما تحدث صاحب الابريق بأنه استعاده متصدعاً ومكسوراً حالياً، وعليه، فإن أجوبة من استعار الابريق ستكون متطابقة بشكل مدهش مع تطورات المرحلة الانتقالية والتعددية المتلازمة معها وانعكاس ذلك على جهود كل النخب المنخرطة في العملية السياسية، بل ويتعدى ذلك حتى إلى القوى الاقليمية المنضوية تحت سقف «الكوندومينيوم»، والمشرفة عليه الولايات المتحدة. هنا يجب التنبه إلى أن سرعة تطور العملية السياسية على الطريقة «الحلزونيــة» متطابقة أيضا مع المراحل المختلفة للتعــددية التــي تعــاني منهــا المرحــلة الانتقاليــة، والتي قد تجــد لهــا موئلا في بعض الكتابات «اللــيبرالية» العربيــة الشائنة وهي تدافع عنها بالبــسالة نفــسها التي كــانت تدافع سابقا عن الديموقراطية الموجهة في زمن «البونابرتية العسكرية» وجملة التشويهات التي لحقت بالمضمــون الاجتماعي الحقــيقي للــحرية ضمن القاعدة الذليلة: «الدفاع الساذج عن نقاء المفهوم».
إن مراحل الرد الأخلاقي الذرائعي للشخص الذي استعار الابريق ستكون، على الأغلب، ضمن الايقاع التالي: أولا: ـ إن صاحب الابريق يقع في خطأ قاتل بالقول «إنني لم أكسر الابريق. إنه يكرر، ويعيش في وهم منهجي. ويخضع بصورة قاهرة لطبيعة الأشياء. إن العراق الآن، بعد الاحتلال، لا يختلف عنه في الزمن السابق وإن النخب تنظر بعين عوراء إلى المشاكل المباشرة، وقلة الصبر لديها تدفعها إلى التأفف وعدم التكيف. وهذه ميزة رديئة لمن يريد المباشرة في إعادة بناء البلد وإعماره. وقد وقع الجميع في فخ الفردية والتسلط. وعليه، فإن المشاركة بين الجميع تعني «كتابة» جدولة مهمة للبدء في العمل، أولها تحديد المكونات في العراق، والتي كانت سابقا هي من تحدد، وابتداع «لاصق» تاريخي جديد لدغمها في إطار واحد للمباشرة في تنفيذ تشييد السلطة الجديدة مع الاهتمام اللازم لتوزيعها بالتوازن والتناسب نفسه، وحقن قوة خاصة لتوزيع الثروة الطبيعية للبلد، والتي قد تقترب أو تبتعد عن الثروة البشرية القائمة والموجودة. من هنا نشهد الصمت الكامل لحملان الاحتلال والتوجه فورا نحو تلفيق الدستور، والتواطؤ من أجل تحقيق الانتخابات «الاحتلالية» الواحدة تلو الأخرى. وهذه تتضمن أرقاماً تشبه «الشيفرة» الكونية، والتي اختلطت منذ البداية بالعدد 25 وهم أعضاء مجلس الحكم تحت إشراف القنصل بول بريمر، ودائما ضمن تفاصيل «خريطة» النسب والتناسبات بين المكونات، وعلاقاتها البينية مادياً وسياسياً، وهذه المحطة الأولى للمرحلة الانتقالية ستكون مكرسة من جديد لحكم الأقلية السياسي والمنعكس بدوره عن حكم «الغالبية» الطوائفي والعرقي، والذي أدى إلى «الثالوث» الاحتلالي: الرئاسة، البرلمان، والحكومة بقيادة حزب «الدعوة».
في الرد الثاني الأخلاقي سيكون أكثر سخرية من السابق. إن صاحب الابريق يشوه الحادثة بشكل ينسجم مع مصالحه أكثر من ملكيته للابريق، ويقول إن الابريق في الأساس كان مكسورا قبل الاستعارة، وهو لا يصلح للاستعمال، ومن هذه الزاوية، جرت ضرورة إعادته، ولأن الاحتلال يرفض منطق كولن باول بملكية العراق، بحسب المواصفات التاريخية للملكية العقارية الرأسمالية، فإن عملية الاصلاح ستكون على عاتق صاحب الابريق وسيكون الثمن مدفوعاً من أمواله وثرواته الطبيعية الخاصة. وبحسب أعراف الاستعارة المتداولة، هنا كانت الاستعارة طارئة وليس لها تكاليف معينة، وهنا ستكون المحطة الثانية للمرحلة الانتقالية والتي ستكون الأشد تعقيداً والأكثر دموية، مما تصورته «النخب» المتعاونة مع الاحتلال.
أما الرد الثالث الأخلاقي فسيكون: إن صاحب الابريق يعيش حالة عزلة كاملة عن الواقع والحقيقة. إن الاستعارة لم تحدث أبداً. إن هذا الرد سيكون ببساطة منسجماً جداً مع كلام الباحث ريتشارد بارنيت مؤلف كتاب «جذور الحرب» ـ 1972 الذي يشرح بدقة: «إننا الدولة رقم واحد التي أتقنت منظر القتل الكامل، وفي اللحظة التي تحقق فيها منظر القتل الكامل هذا، لم يعد هناك وسيلة عملية للهيمنة السياسية». إن التنصل هذا هو سنة كولونيالية ذرائعية محضة وهي ليست هروباً فقط من المسؤولية، وإنما تبريراً للهروب الكاذب لاحقاً من الاحتلال بالادعاء المتواصل بأنه لم يعد هناك احتلال: إن هذا يعني أن «المحطة» الثالثة للمرحلة الانتقالية ستكون إطلاق الحرية الحقيقية والغرائزية، لا المتخيلة أو الافتراضية المسكونة في جسد الناس وربوع البلاد. بمعنى آخر تقول نخب المكونات المتعاونة لقيادة الاحتلال الحقيقي: هيا نرقص سويـة، ونحــو إيجــاد علاقــة جديــدة في داخل هذه المكونات وتوفير الظروف المناسبة. وفي حالة عدم هطول هذه الأمطار الصناعية لتغذية لاصقات جديدة للكيانات الداخلية في المكونات، فإن البديل الوحيد هو إعادة تشكيل هذه المكـونات برمتها من خلال السردية التقليدية للاحتلالات ودفعها إلى الخيار الوحيد أمامها، وهو القاعدة الفقهية الضالة والمضللة والمستـعادة دائــماً في عصور الاحتلالات والانحطاط: «إن ما لا يدرك كله لا يترك جله»! إن الرجوع إلى الحالة «الأولية» للمكونات، أي إلى المرحلة «البدائية» لما قبل الدولة، هو الشكل والمضمون الوحيد المتبــقي حاليــاً في مرحلة نكران الاحتلال أي مرحلة «الاحتلال من دون احتلال» بكل تضاريسها الاجتماعية وعقابيلها السياسية.
إن المنــظر المســعور اليميــني ستــيفن شــوارتز وأحد الناشطين في «مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات» يلخــص «المحطة الثالثــة» للــمرحلة الانتقالية حين يجزم أن اميركا، وقد انتقلت من مرحلة احتواء العدو إلى تشجيع الثورة في المنطقة، تتصرف بكونها الوكيل المخرب الأول للثورة «العالمية» وقدراتها في الانتشار والتعميم، بمعنى آخر فإن اميركا في انسحابها «الكاذب» من المنطقة تدع القوى «الحية»، بحسب منطق مصالحها، بأن تأخذ زمام أمورها وتحقيق ما تراه صالحاً لها وما تريده، شرط أن يكون ملائماً للخريطة الاستراتيجية للحفاظ على «الملكية العقارية» العالمية، وبذلك تعطي الانطباع المزيف للبعض بأنها لا تسيطر ولا تريد أن تسيطر .دعونا نتذكر انه في بداية «الغزو والاحــتلال» وحــين كــانت الدبابات الاميركية تتجه نحو العاصمة «بغداد»، سأل الصحافيون وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف: «هل تسيطر هذه القوات على أجزاء من بغداد؟»، فأجابهم: «إن الاميركيين لا يسيطرون على شيء! حتى انهم لا يسيطرون على أنفسهم». الجواب دقيق، والسؤال الأكثر شهرة وفضحاً، من يرمي الحجارة أولا... الاحتلال أم النخب؟




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق